خرافة حاطب بن أبي بلتعة

في أعماق التاريخ الإسلامي، بين صفحات الروايات التي تتناقلها الأجيال، تظهر واحدة من أكثر القصص الملتبسة والتي تعكس إشكالية فكرية وتاريخية خطيرة، ألا وهي قصة حاطب بن أبي بلتعة. هذه القصة، التي يُرَوَّج لها على أنها مثال على الرحمة النبوية و الصفح عن الزلات، في واقع الأمر هي جريمة تاريخية لا تحتمل التبرير ولا التهويل. كيف لعقلٍ سليم أن يتصور أن صحابيًا شهد غزوة بدر التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، يرسل رسالة سرية إلى أعداء الأمة ليكشف لهم خطط غزو مكة؟ أي إيمان كان في قلب هذا الصحابي إذا كان يظن أن الخيانة يمكن أن تمر دون عقاب؟ أي منطق يقول أن من شهد معركة بدر، ووقف في صفوف النصر، يختار في وقتٍ لاحق أن يكون خائنًا بهذا الشكل الفاضح؟

ثم كيف يمكن أن نصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يضع العدل أساسًا للتعامل مع الصحابة، يكتفي بـ التبرير العاطفي عندما يُواجه خيانةً من أحد أتباعه؟ لماذا لم يُحاسب حاطب كما يقتضي العدل، بل تم تبرير خطأه بناءً على حجج واهية لا تليق بحجم الجريمة؟

هذه القصة، التي يزعم البعض أنها دروس في الرحمة والتسامح، هي في حقيقة الأمر ضربة قاصمة لأسس العدالة الإسلامية. هي إهانة لفهمنا عن الإيمان الحقيقي و الولاء للنبي صلى الله عليه وسلم. سنكشف في هذا البيان، بعون الله، كيف أن هذه القصة مفبركة، وكيف أن التناقضات الكبيرة فيها تشير بوضوح إلى أنها أكذوبة تاريخية تضاف إلى سلسلة من الأساطير التي شوهت الحقائق عن الصحابة و الأحداث الحاسمة في التاريخ الإسلامي.


 أول إضطراب يلحظ في الرواية هو ما روي عن علي في صحيح البخاري (3081) :"إني لأعلم ما الذي جرأ صاحبك على الدماء سمعته يقول : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم والزبير ..... "

وأخرج أبو يعلى في المقصد العلي للهيثمي (1414) والبزار في البحر الزخار (308/1) والطحاوي في شرح مشكل
 الآثار (4436) والحاكم النيسابوري في المستدرك (6966) وغيرهم : "كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى أهل مكة فأطلع الله عليه نبيه، فبعث عليا والزبير في أثر الكتاب، فأدركا امرأة على بعير .... "


لكن البخاري روى في صحيحه (4890) ومسلم (2494) عن علي بن أبي طالب :"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد .... ."

فهل يا ترى النبي بعث المقداد مع الزبير وعلي أم لم يبعثه معهما ؟

والأكثر من ذلك نجد في صحيح البخاري (3983) ومسلم (2494) عن علي :رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد النغوي والزبير بن العوام ..... ."

فهل يا ترى النبي أرسل الزبير وعلي وحدهما أم معهما شخص ثالث ؟ وإذا كان هناك شخص ثالث فمن هو هل هو المقداد أم أبو مرقد الغنوي ؟ تضارب واضح بين الروايات يكون تلفيقها جملة وتفصيلا

وأعجب ما وقفت عليه هو ما أخرجه إبن كثير في البداية والنهاية (284/4) على شرط مسلم وأحمد (14774) وإبن حبان (4797) وأبو يعلى (2265)  عن جابر بن عبد الله أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد غزوهم فدل (بضم الدال) صلى الله عليه وسلم على المرأة التي معها الكتاب فأرسل إليها فأخذ كتابها من رأسها وقال يا حاطب أفعلت قال نعم.


نلاحظ أن الرواية التي ذكرها إبن كثير وأحمد وإبن حبان وابو يعلى لم توضح بالتحديد من أرسله النبي لملاحقة تلك المرأة التي كانت متوجهة لمكة وهذا يؤكد إضطراب حتى قصة إرسال علي والزبير معا

إنَّ من أبرز التناقضات التي تُثار حول قصة حاطب بن أبي بلتعة، تكمن في تصوره الغريب لأحداث غزوة بدر، فهو أحد الصحابة الذين شهدوا تلك المعركة، ورغم أنَّ إيمانه كان ينبغي أن يكون رادعًا له من أن يقدم على مثل هذا العمل الخائن، إلا أنَّ التصرف الذي ارتكبه حاطب في إرسال رسالة إلى قريش يكشف عن تباين عميق في فهمه للإيمان والتزامه بالولاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذ كيف يُعقل أن صحابيًا شهد غزوة بدر، وكان من أهل الشهداء الذين اختارهم الله ليكونوا في الصفوف الأولى، يُقدم على خيانة النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد خوفه على أسرته في مكة؟ إذا كان إيمانه الحقيقي قد رسخ في قلبه بعد أن شهد معركة بدر، كيف له أن يفرط في الولاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الطريقة الخطيرة؟

ومن المثير أنَّ بعض الروايات تشير إلى أنَّه كان في حالة من الضعف الإنساني والظن الخاطئ بأنَّ هذا الفعل لن يكشف. إذا كان إيمانه قد تمكن منه حقًا، فلماذا لم يكن هذا الإيمان رادعًا له عن الخيانة؟ إنَّ هذه الحادثة تكشف عن تضارب كبير في المواقف والروايات المتعلقة بحاطب، وتطرح تساؤلات حول مدى صحة التصور الذي يُراد تقديمه حوله كـ "صاحب إيمان ضعيف لم يمنعه من الخيانة"، وهو ما يحتاج إلى إعادة تقييم نقدي من قبل الباحثين والمؤرخين.


من الترقعيات التي وقفت عليها هي ما ورد في تفسير الطبري (156/2) : ورد أن حاطب لم يكن يهدف بالضرورة إلى كفر أو خيانة، وإنما كان في حالة من الضعف ويظن أن فعلته قد تمر دون أن يُكتشف.

وكيف يمكن تفسير دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب رغم الخيانة التي ارتكبها، والتي تعرض بها أسرار المسلمين إلى أعدائهم؟ فلو كان حاطب قد ارتكب هذا الفعل بالفعل، كيف يبرر لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا الخطأ الجسيم؟ لو كانت الحادثة صحيحة كما وردت في الروايات، لماذا لم يُتخذ قرار حاسم من النبي صلى الله عليه وسلم تجاه الخيانة بهذه الطريقة السافرة؟ هذه المفارقة تدفعنا للتساؤل عن صحة القصة نفسها.

وأخيرًا، نجد أن الدفاع عن حاطب قد أُلقي عليه الضوء على أنه مغفور له بسبب "أنَّه من أهل بدر"، مما يعكس نوعًا من التلاعب في المعايير لا يتفق مع مبادئ العدل. كيف يمكن أن يُبرر خطأ فادح مثل الخيانة تحت ستار الغفران من أجل مكانةٍ قد لا تكون واقعية في تلك الحادثة؟ كيف يُمكن أن يتساوى خروج حاطب على معايير الإيمان والأمانة مع الصحابة الآخرين الذين لم يرتكبوا مثل هذه الأفعال؟ هذا التناقض يضع هذه الحكاية ضمن القصص المشكوك في صحتها.

وأولا وأخيرا هذه القصة تتعارض مع قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ النساء (105). 

فقد قال القرطبي : فنهى الله عزوجل رسوله عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز. فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق.

وقال الطبري : خصيما أي تخاصم عنه وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه

وقال البغوي خصيما أي معينا مدافعا عنه


ومن الكوارث التي إنتبهت لها هي ما رواه مسلم (2494) والبخاري (6259) :".....فقال عمر بن الخطاب: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فأضرب عنقه، قال: فقال: يا عمر، وما يدريك لعل الله الله قد أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة.

هذه الرواية تسيء للنبي وتظهره على أنه كاهن ومنجم وعراف يتكهن في مواضيع الغيب بدون علم ونص الرواية واضح يقول (ما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر)!!! هل هذا نبي أم منجم ؟ أين هي عقولكم يا مسلمين كيف تقبلون هكذا هراء على نبيكم


ومما يؤكد كذب هذه القصة أنه لا أحد يعلم أن فلان أو علان في الجنة أو في النار ولا أحد يعلم أن فلان أعماله مقبولة أو أعماله محبوطة بما فيهم الأنبياء والمرسلين كذلك فلا أحد يعلم ما ذكرناه إلا الله سبحانه وتعالى

وأحاديث التبشير المزعومة كالعشرة المبشرين بالجنة وسيدا شباب أهل الجنة ونعلي بلال وغيرها كلها أحاديث موضوعة ومكذوبة

أما بخصوص إعملوا ما شئتم هذا كلام باطل يناقض فلسفة الإمتحان في الحياة الدنيا الذي خلقنا الله له فالدخول للجنة أو النار هو محصلة أعمال قام بها المرء في جميع أطوار حياته فلا أحد يدخل الجنة لأنه شارك في معركة فلانية أو لأنه إشترى بئرا كما يفترون في روايات عن عثمان بن عفان أو لأنه عمل بعمل أهل النار أو الجنة في آخر حياته كما هي رواية مسلم الموضوعة.


الدخول للجنة أو النار هو محصلة أعمال "وأما من خفت موازينه ... وأما من ثقلت موازينه"

أي من رجحت سيئاته على حسناته فهو من أصحاب النار هم فيها خالدون
ومن رجحت حسناته على سيئاته فهو من أصحاب الجنة هم فيها خالدون

وقصة حاطب المزعومة وقفت على آيات من كتاب الله تشعر وكأنها تتحدث عنها حيث قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾ الأنفال.

إذا التبرير لهذه الخيانة بأنها كانت لدوافع إنسانية وأن لا بأس فيها هذا يتناقض مع مبدأ إيمان أهل بدر الإيمان الفولاذي لا يتخرقه شيء في السماوات والأرض
وقد حذر سبحانه في هذه الآيات من خيانة الله والرسول والأمانة مع العلم وحاطب كان يعلم هذا ولم يكن جاهلا وحذر تعالى أن الأموال والأولاد فتنة لا يجب الرضوخ لها والإنصياع مقابل الأجر العظيم الذي عنده بينما نجد حاطب خان المؤمنين لأجل أسرته وأمواله في مكة مع القرشيين وبعد كل هذا وعد الله المتقين بجعل الفرقان وتكفير السيئات عنهم والمغفرة لهم ولكن حاطب حسب القصة المزعومة لم يتقي الله فهو أرسل رسالة لقريش لكي يكشف خطة الرسول في محاربتهم.

أما قصة كما ذكرنا سلفا أن الله غفر لأهل بدر وبالتالي يجوز لهم أي شيء هذا مجرد هرطقة لا أكثر ويتناقض مع قوله تعالى ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفرْ عَنْكُمْ سيئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ النساء (31).
فتكفير السيئات يكون بإجتناب كبائر ما نهينا عنه وخيانة الله ورسوله طبعا من الكبائر فالتوبة منها تحتاج لتوبة وإصلاح وليس كما يفترى في هذه الرواية المكذوبة.



ختاما قصة حاطب وخيانته للنبي مجرد هرطقة وصنيع خيالات العباسيين لا أكثر ولا أقل ومن سابع المستحيلات أن تكون قصة حقيقة وهي تحمل كل هذا التضارب والتناقض والأهم من هذا التصرف المنسوب زورا وبهتانا للنبي تجاهه الذي يتناقض مع القرآن العظيم ومبادئ الإسلام العامة القائمة على القسط والميزان وليس على الأهواء والعواطف والإنحيازات.






وهذا واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Comments

Popular posts from this blog

هل تعلم من أين أخذ البخاري ومسلم قصة كذبات إبراهيم ؟

خرافة عوج بن عنق