خرافة عوج بن عنق

 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والسلام على من إتبع الهدى أما بعد


في زوايا الخرافات والأساطير، تطل علينا شخصية عوج بن عنق كواحدة من أكثر الأوهام التراثية غرابة، حيث يُصوَّر هذا الكائن على أنه عملاق بلغ من الطول حداً أسطورياً جعله يتجاوز الجبال، ويشرب مياه البحار بكف واحدة، ويرفع السفن من عرض المحيطات كما يرفع الطفل دميته! هذه القصة لم تكن مجرد حكاية يتداولها العوام، بل تسللت إلى كتب التراث والتفسير، وأصبحت عند البعض حقيقة لا تقبل التشكيك، وكأن المنطق والعقل قد جُرِّدا من قيمتهما أمام خزعبلات الماضي.

يدَّعي ناقلو هذه الأسطورة أن عوج بن عنق عاش آلاف السنين، وأنه كان موجودًا منذ زمن آدم عليه السلام، بل وكان شاهداً على الطوفان مع نوح، إذ لم يكن بحاجة إلى السفينة لأنه كان طويل القامة لدرجة أن المياه لم تغمره! تخيلوا هذا العبث: في الوقت الذي تفيض فيه المياه لتغطي الأرض كلها، يُترك عوج يتجول وكأن الطوفان حدث محلي لا يعنيه! كيف لعاقل أن يصدق بأن فردًا واحدًا كان طوله آلاف الأمتار ولم تتغير قوانين الطبيعة لأجله؟

ومن أكثر ما يُثير الضحك في هذه الخرافة أن بعض الروايات تزعم أن موسى عليه السلام تمكن من قتل هذا العملاق بحجر صغير أو بعصا، رغم أن المنطق يقول إن كائناً بهذا الحجم يحتاج إلى سلاح بحجم الجبال ليُطرح أرضًا! لكن لا غرابة، فهذه الروايات لا تهدف إلى الاتساق العقلي بقدر ما تهدف إلى إثارة الدهشة والرعب، وكأن العقل البشري مجرد وعاء يُسكب فيه أي كلام بلا تفكير أو تمحيص.

ووجود مثل هذه القصص في كتب التراث يكشف عن أزمة عميقة في التعامل مع النصوص: فبدلاً من أن يكون العقل هو الحَكَم، تحوّل النقل إلى الإله الذي لا يُناقش، وتحولت الخرافة إلى حقيقة مقدسة لا يجوز الاقتراب منها. كيف يعقل أن يُعتمد على مصادر تُروج لأكاذيب في زمن نمتلك فيه من الأدوات العلمية والمنطقية ما يكفي لنسفها تمامًا؟


الأسطورة في أصلها وُجدت لتخدم أغراضًا معينة، سواء لترهيب العامة أو لإضفاء هالة من الغموض حول شخصيات تاريخية أو دينية. لكنها عندما تُعامل كحقيقة، تتحول إلى كارثة فكرية تعطل العقل وتُرسّخ الجهل. إن الإيمان بالخرافات مثل عوج بن عنق ليس مجرد ترف فكري، بل هو سقوط في مستنقع التخلف، ورفض للعقل، واستسلام أمام الأكاذيب التي لم يكن لها مكان حتى في أكثر العصور بدائية.





في تفسير الطبري لقوله تعالى ﴿قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ المائدة (22).
-"حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قصة ذكرها من أمر موسى وبني إسرائيل، قال، ثم أمرهم بالسير إلى أريحا وهي أرض بيت المقدس فساروا حتى إذا كانوا قريبا منهم، بعث موسى اثني عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبارين، فلقيهم رجل من الجبارين، فلقيهم رجل من الجبارين، يقال له "عاج"، فأخذ الإثني عشر فجعلهم في حجزته، وعلى رأسه حملة حطب، وإنطلق بهم إلى إمرأته فقال، انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي ؟ فقالت إمرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا! ففعل ذلك.
وهذا الأثر ذكر مطولا برقم 11572، في تاريخ الطبري (222/1)".

وقد قمت سابقا بمراجعة تفسير الطبري بتحقيق بتحقيق الدكتور بشار عواد معروف وعصام فارس الحرستاني، طبعة مؤسسة الرسالة.
فلم أجد هذا الكلام فيه فمن الواضح أنهم قاموا بتنقيح تفسير الطبري ومحو هذه الخرافات والأكاذيب وهذا الأمر لا أود إتهامهم ولكن هذا الأمر قد يكون خيانة علمية ومحاولة لتبرئة عقول هؤلاء الشيوخ من تصديق الخرافات والأساطير وتفسير القرآن بها.


وقد نقل كذلك القرطبي في تفسير لنفس الآية ذكر:
"ثم قيل: كان هؤلاء من بقايا عاد، وقيل: هم من ولد عيصوا بن إسحاق، وكانوا من الروم، وكان معهم عوج الأعنق، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا، قاله إبن عمر، وكان يحتجن السحاب أي: يجذبه بمحجنه ويشرب منه، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله، وحضر طوفان نوح عليه السلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف وستمائة سنة، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته، وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله، وقيل : بل ضربه في العرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسرهم سنة. ذكر هذا المعنى بإختلاف ألفاظ محمد بن إسحاق والطبري ومكي وغيرهم، وقال الكلبي: عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت، والله أعلم". 





ما هذه الخرافة والهرطقة أيها العقلاء ؟

لكن ما ذكره القرطبي والطبري ليس بشيء أمام ما ذكره عبد الملك العصامي في كتابه "سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائلي والتوالي" :
قال: "وفي كتاب (المبتدأ) : أن آدم لم يكن يأ حواء منذ هبطا إلى الأرض، ولا خطر بقلبه ولا قلبها ذكره حياء من الله تعالى ، فأوحى الله إليه آدم، ماهذا الجزع وأنت صفوتي وأبو المصطفى رسولي، فأبشر بنعمتي وكرامتي أنت وزوجك حواء، فألم بها، فبشر حواء، فسجدت شكرا لله، ثم باشرها، فحملت منه، فولدت ذكرا وأثنى في بطن، فسمت الولد قابيل، والأنثى إقليميا، ثم واقعها فحملت بهابيل وأخته ليوذا، ثم حملت بطنا ثالثا فولدت توأمين، وأولادها يكثرون ويمشون بين يديها، والنور لا ينتقل من وجه آدم. ولم تزل حواء تلد في كل تسعة أشهر ولدين ذكرا وأنثى، فقيل: إن جميع من ولدت مائتا ولد في مائة بطن في كل بطن ولدان، إلا شيئا وعنق، فإنها ولدتهما مفردين كل واحد في بطن.
وقيل: ولدت له خمسمائة بطن بألف ذكر وأنثى.
وسيأتي حديث شيث قريبا، وحديث عنق عند ذكر إبنها عوج بن عنق، عند ذكر قتل موسى إياه، عليه الصلاة والسلام.
-ص75-76

ينتقل بنا المؤلف بداية من الصفحة 160 حينما قال : "وفي زمنه ملك عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح الذي تنسب إليه القبيلة، كان رجلا خيارا شديد الخلق يعبد القمر. رأى من صلبه أربعة آلاف ولد، منهم شديد وشداد وعلوان، وكانت بلاده متصلة باليمن .......... وكانوا أعطوا من الخلق والقوة مالم يعط أحد من بني آدم قبلهم ولا بعدهم، ولذلك تجبروا فسموا جبارين، وإحتقروا من سواهم من الخلق من ولد يافث وحام، وهم الذين ملكوا سائر الأقاليم. ........... روي أن الرجل منهم كان يحمل الصخرة على الحي فيهلكهم وكان طول الرجل منهم مائة وعشرون ذراعا بذراعهم وعرضه ستون ذراعا، وكان أحدهم يضرب الجبل الصغير فيقطعه وكانوا يسلخون العمد من الجبال، فيجعلون طول العمد مثل طول الجبل الذي يسلخونه من أسفله إلى أعلاه، ثم ينصبون العمد فيبنون فوقها القصور.

ثم يسير بنا للصفحة 163: "وإذا انجر الكلام إلى ذكر عوج بن عنق، ولد في منزل آدم عليه السلام وعاش إلى زمن موسى، ويحكى عن خلقه شناعة.

وأمه عنق بنت آدم لصلبه، وقيل: إسمها عناق، وهي أول بغي على وجه الأرض من ولد آدم، وعملت السحر وجاهرت بالمعاصي، وخلق الله لها عشرين إصبعا في كل يد، كالمنجلين العظيمين وكانت مساحة مجلسها من الأرض جريبا، فلما بغت، خلق الله لها أسودا كالفيلة، وذئابا كالإبل، ونسورا كالحمر، فسلطهم عليها فقتلوها وأكلوها.

ويسير بنا السياق بعد صفحتين من ذكره لخرافات كثيرة حول عنق منها قصة حوارها مع إبليس وذهابها لبني قابيل وشربها للخمر وزناها معهم والسحر وووو
ذكر في الصحفة 165-166: "وحملت بعوج ولم تعلم ممن حملت به، فلذلك نسب إليها، فربته حتى عظم وقوى وبقي يطوف الأرض جبلا جبلا، ولم يسلطه الله على أحد من خلقه إلى زمن موسى عليه السلام فأراد أن يرمي عسكره بالجبل، فجعله الله طوقا في عنقه، وقتله موسى عليه السلام كما سيأتي قريبا.
قلت (المؤلف): ومن كانت هذه أمه، فغير عجيب أن يكون عدوا للأنبياء وقد قيل: إنه مازال يفتك بالأنبياء ويقتل إلى أن هلك وأغار على الأنبياء حتى قتل ثمانمائة وأربعة عشر نبيا. وروى أنه جاء إلى نوح مستغيثا، ليحمله في السفينة، فخافه نوح، فقال له عوج: لا بأس عليك يا نوح مني، دعني أمشي مع سفينتك، فإني أعلم أن سفينتك لا تسعني ولا تحملني، فأوحى الله إلى نوح: ذر عوجا ولا تخف منه، فإنه لا قدرة له عليك، فقال له نوح: ضع يدك على مؤخر السفينة، فإن الله قد أمرني بذلك، فبلغ الماء ركبتيه، وفي رواية: ما بلغ نصف ساقيه، وكان لا يأوي إلى المدن ولا تسعه إلى الصحاري وكهوف أعدها لنفسه تكنه من الأمطار وحر الشمس.
سئل عوج: ما أعجب ما رأيت؟ قال: كنت أخوض البحر دائما إلى ساقي أو إلى ركبتي أو إلى حقوي أو إلى صدري، فبلغت موضعا وضعت فيه رجلي فلم أبلغ قراره فرجعت هاربا، فإعترضتني حية فأخذتها بيدي ورفعتها حتى ظهر بياض إبطي ولم يظهر لها رأس ولا ذنب. وعثر على نقباء موسى الإثني عشر حين أرسلهم إلى أريحا بلد الجبارين عيونا، فأخذهم في كمه مع فاكهة كان حملها من بستان، فنثرهم بين بيد الملك فردهم الملك إلى موسى ليعلموه بما عاينوه.
قال في الأنس الجليل، تاريخ القدس والخليل: كان طول عوج ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع، وكان يحتجز السحاب ويشرب منه، وكان يضرب بيده فيأخذ الحوت من قاع البحر، ثم يرفعه إلى السماء فيشويه بعين الشمس فيأكله.إهـ . "
وبعدها العصامي ذكر بعدها بالعديد من الصفحات حول قصة عوج مع هود وموسى وأن موسى كان طوله سبعة أذرع وعصاه خمسة أذرع وخرافات لا تعد ولا تحصى.


وبطبيعة الحال إيرادنا لهذه النقول بالمصدر وكل شيء موثق ليطلع الناس على الحجم الهائل من الخرافية المعششة في عقول الشيوخ الذين يسمون بالعلماء وأن كتبهم لا تحمل بين طياتها إلا الأساطير والخرافات والأكاذيب. وقصة عوج بن عنق لم يوردها هؤلاء فقط بل أوردنا كثير من الشيوخ إقتصرنا في هذه المقال على بعضهم فقط وبطبيعة الحال لن نناقش هذه القصة فهي أقل من أن تناقش أصلا وسنحط من قدر عقولنا إن فكرنا أساسا في نقاشها.




ختاما، معركة العقل مع هذه الخرافات ليست مجرد جدل تاريخي بل هي معركة بين التفكير العلمي والتبعية العمياء، بين النقد والقبول الأعمى، بين التحقق والخرافة. فهل آن الأوان لأن نُسقط هذه الأصنام الفكرية.









واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Comments

Popular posts from this blog

خرافة حاطب بن أبي بلتعة

هل تعلم من أين أخذ البخاري ومسلم قصة كذبات إبراهيم ؟