تفسير غير مسبوق للآية 103 من سورة المائدة

منذ قرون من الزمن، والناس يرددون تفسيرات موروثة لم يُكلفوا أنفسهم عناء مراجعتها، وكأنها وحي لا يُناقش! تراكم القيل والقال وروايات فلان وعلان فوق النص القرآني حتى غطّته، وتحولت بعض التفاسير إلى جدران سميكة تحجب المعنى الحقيقي لآيات الله. وحين يُصبح التقديس عادةً، تُقتل الأسئلة، ويتحول الإنسان إلى مجرّد متلقٍ، يبتلع ما يُملى عليه دون تمحيص. ومن بين الآيات التي طُمس معناها تحت ركام الروايات، نجد الآية ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ (المائدة: 103).

لقد أساء ما يسمى بالمفسرين فهم هذه الآية عندما قيدوها بحكايات تافهة وخرافية عن البعير والغنم، وحوّلوها إلى مجرد توثيق لعادات جاهلية بدائية. لكن هل يُعقل أن يتوقف الوحي الإلهي عند حدود قصة عن ناقةٍ هنا وشاةٍ هناك؟ هل هذا هو القرآن الذي يزلزل العقول ويهدم الأنظمة الباطلة؟ أم أن في الآية ما هو أعظم وأخطر من مجرد ذكر حيوانات محرّمة في الجاهلية؟

الحقيقة أن هذه الآية تمثل ضربة موجعة للكهنوت الديني، ورفضًا قاطعًا لسلطة رجال الدين الذين يفتون بما لم يأمر به الله، ويفرضون المحرمات من عند أنفسهم، ثم يلبسونها لباس القداسة. إنها إعلان قرآني ضد صناعة الأوهام والأساطير وأدلجة العقول، وضد كل من يتجرأ على تحريف الدين باسم التقاليد والأعراف والأهواء المآرب الشخصية والمنصبية. إنها تقطع الطريق على كل من يحاول أن يكون وسيطًا بين الإنسان وربه، وتنسف شرعية الافتراء كذبا على الله سبحانه وتعالى.

في هذا المقال، سنمزق الحجب التفسيرية التي خنقت المعنى الحقيقي لهذه الآية، ونعود إلى الجذر اللغوي العميق لها، بعيدًا عن الخرافات التي راجت حولها. سنكشف حقيقتها الصافية كما أرادها الله، لا كما صاغها من استغلوا الدين لصناعة الوهم والخرافة..


قوله تعالى : ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ المائدة-103.

لو أردنا حقا فهم هذه الآية فهما صحيحا علينا أن نسلك مسلكين وهو تحليل هذه الكلمات تحليلا لغويا أي بإيجاد الجذر اللغوي لها وكذلك ربط مدلولات الكلمات بسياق الآية المحيطة بها


تحليل الجذر اللغوي للكلمات نبدأ بكلمة (بحيرة) الجذر: بحر، ويدل على التعطش والحيرة.

أي ما جعل الله لكم حالة من الحيرة والضياع والتعطش الروحي، بل أنزل شريعة واضحة تهديكم.

وكلمة (سائبة) الجذر: سيب، ويدل على الترك والإهمال والإطلاق.

أي لم يترككم الله بلا توجيه، ولم يُهملكم، بل أرشدكم بالوحي والهداية.

وكلمة (وصيلة) الجذر: وصل، ويدل على الربط والصلة. أي: لم يجعلكم وسطاء وصلة بينه وبين خلقه، فلا كهنوت ولا تفويض إلهي لفئة دون أخرى، بل الجميع متساوون في المسؤولية أمام الله.

وكلمة (حام) الجذر: حمى، ويدل على التحريم أو الحماية من شيء ما.

أي أن الله لم يجعل أحدًا حاميًا للدين أو محتكرًا للحقيقة الإلهية، فليس هناك أفراد أو مؤسسات تملك صلاحية الحماية المطلقة للشريعة.

الخلاصة:

هذه الآية تنفي وجود نظام ديني يعتمد على الخرافات والطبقية الدينية، وتؤكد أن الله لم يترك الناس في حيرة، ولم يرفع أحدًا فوق غيره بمنصب كهنوتي، ولم يجعل أفرادًا حماة للدين أو متحكمين فيه، بل المسؤولية فردية والمصدر الوحيد للهداية هو الوحي نفسه.


الآن بعد شرح هذه المصطلحات شرحا حقيقا

أنظر عزيزي للشرح وأنظر لسياق الآية

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَاۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْۖ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾. المائدة


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ هنا القرآن ينبه إلى أن كثرة الأسئلة الغير ضرورية والمهمة تقود إلى التعقيد غير الضروري، تمامًا كما فعلت الأمم السابقة عندما حمّلت نفسها قيودًا لم يفرضها الله. هذا ينسجم مع السياق العام للآيات التي تدين الممارسات الكهنوتية التي ابتدعها الناس ونسبوها زورًا إلى الدين.

ثم تأتي الإشارة إلى تاريخ الأمم السابقة الذين سألوا أسئلة قادتهم إلى الضياع ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ

وهذا يتماشى مع رفض الله لتشريعات البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، والتي كانت ممارسات تُكرّس سلطة رجال الدين والكهنوت على الناس، بزعمهم أن هذه القوانين من عند الله، بينما هي في الحقيقة اختراعات بشرية.

وتأتي الآية الحاسمة التي تدمر كل تشريع ديني ملفق ألا وهي ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾

هذه الجملة تقضي على سلطة التحريمات والوصاية الكهنوتية التي إخترعها البشر، وتفضح طبيعتها الكاذبة. فالآية لا تقول فقط إن الله لم يفرض هذه الأمور، بل تصف الذين يروجون لها بالكفر، لأنها قائمة على الافتراء على الله.

قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ النحل (116).

قَالَ جَلَّ في عُلاه: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُون (60)﴾. يونس

قَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْۚ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ الأنعام (150).

قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التحريم (1).


ثم تكشف الآية التالية السبب الحقيقي وراء استمرار هذه الأكاذيب ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَاۚ

وهنا مربط الفرس حيث أن الناس يرفضون العودة إلى الوحي الصافي لأنهم متمسكون بما توارثوه من عادات وتقاليد، حتى لو كانت مبنية على الكذب والخرافات. هذا النمط من التفكير هو الذي أدى إلى التشريعات الكهنوتية التي جعلت الدين معقدًا وغامضًا، بدلاً من أن يكون واضحًا وميسرًا كما أراده الله.


-بحيرة وإرتباطها بالتعطش والحيرة في آيات أخرى وأن الله لم يترك البشر بلا شريعة واضحة. هذا المعنى تجده مؤكدًا في آيات أخرى كقوله تعالى ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (المائدة: 15) فهذه الآية تثبت أن الهداية واضحة وليست غامضة أو مربكة، مما يعزز فكرة أن الله لم يجعل الناس في "بحيرة" من أمرهم. وقوله ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (مريم: 64) أي أن الله لا يترك الناس بلا إرشاد، بل يوصل إليهم الحق بطرق مختلفة، مما يدعم تفسيرنا لـ "السائبة" بأنها لا تعني الإهمال، لأن الله لم يهمل عباده.

والله تعالى لم يترك الناس بلا توجيه ﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف: 29) هذه الآية تؤكد أن الحق واضح ومتاح، وليس غامضًا أو مربكًا، مما يدعم فكرة أن "البحيرة" ليست حالة ضياع، بل الله قدّم الهداية لمن يبحث عنها.

﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (البلد: 10) أي أن الله أعطى الإنسان القدرة على التمييز بين طريق الخير والشر، فلا يوجد مبرر للحيرة والضياع.

﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (طه: 123) دليل على أن الله لم يترك الناس بلا هدى، مما ينفي مفهوم "البحيرة" كحالة من الفوضى الروحية.


-سائبة تعني نفي الإهمال والترك أي أن الله لم يهمل الناس ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (القيامة: 36) هذه الآية تدحض فكرة أن الإنسان متروك بلا توجيه أو هدف، مما يعزز تفسيرنا لـ "السائبة" بأنها تعني اللا اهمال، بل أن الله قد أعطى الإنسان توجيهات واضحة. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (البقرة: 143) أي أن الله لا يترك من يؤمن به دون هداية، مما يؤكد أن "السائبة" لا تعني التخلي أو الإهمال المطلق.  ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (الروم: 47) تدل على أن الله لم يترك المؤمنين بلا دعم، مما يعزز فكرة أن السائبة ليست تركًا مهملًا.


-قلنا إن الوصيلة تعني أن الله لم يجعل هناك أشخاصًا وسطاء وصلة بينه وبين عباده، وهذا مدعوم بآيات كثيرة كقوله ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (البقرة: 186) فهذه الآية تنفي الحاجة إلى وسطاء، وتؤكد أن العلاقة بين الإنسان والله مباشرة، مما ينسجم مع تفسيرنا لـ "الوصيلة" بأنها ليست منصبًا دينيًا وسيطًا بين الله والناس. وقوله ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ (التوبة: 31) يوضح القرآن أن بعض الناس منحوا رجال الدين سلطة لم يمنحهم الله إياها، مما يتناسب تمامًا مع تفسيرنا لآية المائدة بأنها تنفي وجود وسطاء دينيين لهم سلطة كهنوتية. وقوله : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 25)، وقوله : ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ آل عمران (79). دليل على أن جميع الأنبياء والرسل لم يكونوا وسطاء بين الله والبشر، بل مجرد ناقلين للوحي، مما يدعم تفسيرنا بأن "الوصيلة" لا تعني وجود أشخاص مخصصين كوسطاء. ﴿لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (الأنعام: 164) حيث تنفي أن هناك شخصًا يمكنه تحمل مسؤولية الآخرين دينيًا، مما يتماشى مع رفض الكهنوت والوساطة الدينية. وقوله ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۝ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (الأحزاب: 2-3) هذه الآيات تؤكد أن التوجيه الوحيد المطلوب هو الوحي، وليس رجال الدين الذين يزعمون الوساطة بين الله والناس.



-وحام تنفي احتكار الدين والحماية الدينية الزائفة ارتباط بآيات أخرى فقد قلنا سلفا أن حام يعني أن الله لم يجعل أحدًا "حاميًا" للدين، بمعنى أن لا أحد يمتلك سلطة احتكار الحقيقة الدينية أو فرضها بالقوة. هذه الفكرة نجدها في آيات أخرى ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس: 99) هذه الآية تثبت أن الله لم يكلّف أحدًا بفرض الإيمان بالقوة، مما يعزز فكرة أن "الحام" ليس شخصًا مخوّلًا لحماية الدين بسلطة قهرية.  ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: 9) الله نفسه هو الذي يحفظ الوحي، وليس هناك مجموعة بشرية معينة مكلفة "بحماية" الدين بطريقة احتكارية. ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة: 256) وهذا دليل قوي على أن الدين ليس بحاجة إلى من "يحميه" بالقوة، مما يعزز تفسيرنا لكلمة "حام" بأنها لا تعني أشخاصًا يحتكرون الحماية الدينية.






ويستدل الكثير منهم بقوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون

يقول البعض إن هذه الآية تعني وجوب الرجوع إلى "رجال الدين" أو "العلماء" باعتبارهم وسطاء في فهم الدين، وبالتالي يرون أنها تنقض تفسيرنا الذي ينفي الكهنوت والوساطة الدينية في فهم الوحي.

نقد استدلالهم بآية: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النحل: 43، الأنبياء: 7)

السياق لا يتحدث عن "رجال الدين"، بل عن الأمم السابقة

 إذا نظرنا إلى سياق الآية، نجد أن الخطاب كان موجهًا إلى المشركين الذين كانوا ينكرون بشرية الرسل، وكان الله يرد عليهم بأن الرسل كانوا دائمًا بشرًا، لا ملائكة.

قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل: 43).

أي: إن كنتم تجهلون هذه الحقيقة، فاسألوا الأمم السابقة (اليهود والنصارى) ليخبروكم أن جميع الرسل كانوا بشرًا.

بالتالي، الآية ليست أمرًا عامًا برجوع الناس إلى "علماء الدين" في كل مسألة، بل تتحدث عن شهادة تاريخية من أهل الكتاب.


"أهل الذكر" لا تعني علماء الشريعة حصريًا
مصطلح "أهل الذكر" لا يعني حصريًا "الفقهاء" أو "رجال الدين"، بل يعني ببساطة أهل المعرفة في أي مجال محدد.

عندما نريد أن نفهم الطب، نسأل الأطباء.

عندما نريد أن نفهم الفيزياء، نسأل علماء الفيزياء.

وبالمثل، حين كان المشركون يشككون في بشرية الرسل، قيل لهم: اسألوا أهل الذكر أي أهل الكتاب، لأن عندهم هذه المعلومة في كتبهم.

في القرآن، الذكر هو الوحي، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (يس: 69).

فـ"أهل الذكر" يمكن أن يكونوا ببساطة كل من عندهم علم بالوحي أو بالموضوع المطروح، وليس طبقة دينية تحتكر الفهم.


 الآية لا تفرض الطاعة العمياء، بل البحث عن المعرفة
فحتى لو قبلنا أن "أهل الذكر" تعني ما يسمى بـ "العلماء"، فالأمر في الآية هو بالسؤال، وليس باتباعهم دون تفكير وتعطيل العقل.

لاحظ أن الله لم يقل "فاتبعوا أهل الذكر"، بل قال "فاسألوا"، مما يعني أن على الإنسان أن يسأل، ثم يستخدم عقله في التمييز بين الحق والباطل، وليس التسليم المطلق.

 قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (الإسراء: 36) أي لا تتبع شيئًا دون تحقق وتدبر. إذن، القرآن لا يطلب التسليم المطلق لكلام أي أحد، بل يطلب البحث والنظر بعقل ناقد.


لو كانت هذه الآية دليلًا على وجود وسطاء دينيين، لكانت تناقض آيات أخرى

القرآن يؤكد دائمًا أن الفهم والاستنباط مسؤولية فردية، كما في قوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (محمد: 24) أي أن التدبر مطلوب من الجميع، وليس فقط من "أهل الذكر".

 وقال تعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ (مريم: 95). فكل إنسان مسؤول عن نفسه دينيًا، فلا يوجد أحد يمكنه أن يكون "واسطة" في تحمله للمسؤولية.

لو كان هناك رجال دين معصومون يجب الرجوع إليهم دون تفكير، لكان الله أمر بذلك بوضوح، ولكنه بالعكس أكد على تدبر كل فرد.

فهذه الآية ليست دليلًا على وجود "رجال دين" يحتكرون الفهم، بل مجرد توجيه عام لأخذ المعرفة من مصادرها الصحيحة مع استخدام العقل والتدبر.


﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)﴾. البقرة



واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



Comments

Popular posts from this blog

خرافة حاطب بن أبي بلتعة

هل تعلم من أين أخذ البخاري ومسلم قصة كذبات إبراهيم ؟

خرافة عوج بن عنق