أسطورة ما من نبي إلا وقد رعى الغنم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والسلام على من إتبع الهدى أما بعد
في زحمة المرويات التراثية التي تشكلت عبر العصور، تبرز بعض الروايات التي اكتسبت قداستها لا لصلابتها المنطقية، بل لكثرة تكرارها حتى أصبحت من المسلمات التي لا تناقش. ومن هذه الروايات الزائفة تلك التي تزعم أن "ما من نبي إلا وقد رعى الغنم"، وكأن النبوة تمر عبر بوابة الرعي !
هذا الادعاء ليس مجرد خرافة تقليدية، بل هو مثال صارخ على كيف يعاد تشكيل الوعي الجمعي بناء على روايات بلا أصل قرآني، حيث يختزل مسار الأنبياء في مهنة واحدة، متجاهلين تنوع الأدوار التي مارسها الرسل عبر التاريخ. كيف يعقل أن يكون سليمان، الملك ذو الملك العظيم، أو يوسف، الذي تدرج في بلاط الفراعنة حتى أصبح وزيرا لمصر، قد قضيا حياتهما في رعي الغنم؟!
إننا هنا لا نناقش مجرد رواية موروثة، بل نكشف عن عقلية تقدس التقليد على حساب الحقيقة، وتلبس الأساطير لبوس اليقين. وحينما يمحص هذا الادعاء تحت ضوء القرآن، نجده كسراب يخيل للظمآن أنه ماء، وما هو إلا وهم يتهاوى أمام أول اختبار منطقي.
فقد روى مالك في موطأ مالك (971/2)
وحدثني مالك، أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما من نبي إلا قد رعى غنما، قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال (وأنا).
هذا البلاغ مما صح موصولا عن عبد الرحمن بن عوف، وجابر، وأبي هريرة.
وعن أبي هريرة أخرجه البخاري في: 37 - كتاب الإجارة، 2 - باب رعى الغنم على قراريط.
سنقوم بنقد وتحليل هذه الرواية المبثوثة في كتب التراث وفي عقول الكثير من العامة
أولا الرواية تتصادم مع نص قرآني واضح وصريح ألا وهو : ""
قَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا﴾ النساء (164).
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ...﴾ غافر (78).
بنص هاتان الآيتان الصريحتان أن الله تعالى هناك رسل لم يقصصهم على النبي محمد عليه السلام
وبالتالي النبي لا يعرف شيئا عن هؤلاء الرسل فكيف يقول ما من نبي إلا وقد رعى الغنم ؟
وقبل أن يأتينا أحد بتأويل فارغ من جيبه أن هذا لفظ عام يراد به خصوص وأن النبي لا يقصد جميع الأنبياء بالحرف
أقول أن هذا كما قلت في البداية (تأويل فارغ)
حيث إن رواية البخاري تنقض هذا الكلام جملة تفصيلا فقد روى البخاري (2262) : "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة.
ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم
بعيدا عن أن الرواية أصلا تحمل خطأ لغويا فالمفروض يقال ما بعث الله نبيا إلا وقد رعى الغنم
لأن رعاية الغنم كانت قبل بعثتهم وليس حينها
وطبعا سيأتون ويخترعون لك لا أدري قواعد لغوية وضعية من جيوبهم ليأكدوا ما يذهبون إليه في شتى الأنحاء
وبطبيعة الحال سنغض الطرف عن أن النبي أصلا لم يقصص الله عليه شيء من أخبار الغابرين إلا في القرآن فقط
قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ يوسف (3).
بما أوحينا إليك هذا القرآن، إذا وسيلة القص هي القرآن فحسب فكل رواية تنسب للنبي أنه حدث عن الأقوام السابقة فهي رواية موضوعة قولا واحدا إلا إذا لم تأتي بشيء لم يأتي ذكره في القرآن.
وسنغض الطرف أيضا عن سؤال أصحاب النبي له وأنت ؟ وكأن النبي كان مجهولا في مكة
فسؤال الصحابة هذا يوحي أن النبي قبل البعثة كان مجهولا ولكن نجد في روايات تاريخية فيما يسمى بكتب السيرة النبوية المزعومة أن النبي كان معروفا إذ تزوج خديجة بنت خويلد إبنة عم النصراني الشهير ورقة بن نوفل
وكان النبي معروفا ويلقب بالصادق الأمين ومعروفا بعدم عبادته للأصنام وذهابه المتكرر لغار حراء للتحنت فيه
وأنا أدري أنهم سيأتون بتأويلات من جيوبهم وترقيعات كالعادة
عموما نأتي لنقد هذه الرواية
الله تبارك وتعالى ذكر لنا في كتابه
قَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ فاطر (24).
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ النحل (36).
إذا بدلالة الآيات الواضحة أن جميع الأمم في كل زمان ومكان بلا إستثناء قد بعث الله فيها رسولا ونذيرا
وبنفس الوقت ينسب للنبي أنه قال ما من نبي إلا وقد رعى الغنم
إذا دعونا نحلل هذا الموضوع بتأني
الغنم هناك العديد من المناطق في العالم التي لا يمكن أن يعيش فيها بتاتا كصحراء لوط الواقعة جنوب شرق إيران وغابة الأمازون ومنطقة جنوب غرب القارة الإفريقية (خط الإستواء وصحراء ناميبيا) وكذلك المناطق المغمورة بالمياه أي التي تشهد فيضانات مستمرة كجهة بنغلاديش مع الهند ومناطق جزر جنوب شرق آسيا كالفيتنام واندونيسيا والفلبين
إذا كل هذه المناطق لا يمكن للغنم أن يعيش فيها لأنه بطبيعة الحال غير مؤهل للعيش فيها وبيئة هذه المناطق لا تناسبه
وبنفس الوقت قد أرسل الله رسلا وبعث أنبياء في هذه المناطق بالتأكيد
فكيف إذا ينسب للنبي أنه يقول ما من نبي إلا وقد رعى الغنم ؟
بتحليل بسيط ودراسة موضوعية يتضح لكل عاقل مدى زيف هذه الرواية وأنها محض تلفيق وإفتراء على النبي عليه السلام
واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
Comments
Post a Comment